على شط بحر الهوى…. قصة قصيرة بقلم علي الشافعي

حديث الجمعة بقلم علي الشافعي
على شط بحر الهوى قصة قصيرة
كنّا ــ يا دام سعدكم ــ يوما في جلسة استرخاء بعد الغداء ـــ أنا والعائلة الكريمة ـــ نحتسي فناجين القهوة، أستعدُّ بعدها للانطلاق إلى قيلولتي اليومية المحبوبة بعد الغداء. لا أدري كيف تسلل إلى الجلسة ذكر مدينة العقبة , وكيف كانت إبّان عملي بها معلماً قبل ثلاثين عاماً، وكيف أصبحت اليوم بعد التطور، وبعد أن أصبحت منطقة تجارة حرة , وتسابقت نحوها اموال الاستثمار, قال أحده الأبناء ــ وكنت أظنّه مازحاً ـــ: ما رأيك يا أبت أن نصحبك الآن في رحلة لقضاء ليلة على شواطئها عهلى ضوء القمر فتستعيد الذكريات . قلت: الآن ؟ قال الجميع وكأنّهم نشطوا من عقال، وقد ذهبت عنهم ملامح الاسترخاء: نعم الآن ، اليوم الجمعة والسيارات جاهزات.
تحمّس الأولاد وصفّق الأحفاد وتكالبوا عليّ يرجونني أن أوافق. قلت: يا أبنائي المسافة بعيدة وأنا وأمكم ما عدنا نقوى على السفر الطويل، والأمر بحاجة إلى ترتيب وتحضير مسبقين. قالوا: لا ترتيب ولا تحضير السيارات جاهزة، وكل ما نحتاجه نتناوله عن الطريق. قلت: ثم الآن موعد قيلولتي التي لا غنى لي عنها، قال كبيرهم: من هذه الناحية اطمئن سنهيئ لك المقعد وكأنّه سريرك الذي تنام عليه. أذعنت أخيراً تحت إلحاح الاحفاد قبل الأبناء ، وما هي إلّا دقائق معدودة حتى كنت أغط في نوم عميق، استفقت منه على صوت السيارات تمخر عباب الخط الصحراوي باتجاه الجنوب صوب ثغر الأردن الباسم.
الخط الصحراوي أكثر خط حيوي في الأردن، إذ يعد شريان الحياة الذي يربط القارة الأوروبية بآسيا وإفريقيا في رحلات التجارة والحج. وهو أكثر الخطوط ازدحاما حيث ينقل البضائع من ميناء العقبة إلى باقي مدن المملكة وبعض دول الخليج والعراق. مما أثلج صدري على هذا الخط الحيوي كثرة الدوريات الخارجية التي تنظّم السير وتراقبه وتأخذ على أيدي من لا يتقيدون السرعة المقررة، أمّا ملاحظتي على الخط الذي هو شريان البلد أنّه بحاجة إلى صيانة، ولا تبرير لعدم صيانته، فلو جمعت مصاريف حفلات أولاد الذوات لمدة شهر لرممت خطين مثل هذا الخط الحيوي الهام.
لا أطيل عليكم وَضَعْنَا الرِحال على شاطئ المدينة التي لا تنام، وطبعاً المدينة تغيّرت فما عدت أعرف مدخلها من مخرجها. وأراد الاولاد إحضار وجبة عشاء وخيرونا بين السمك العَقَباوي المشوي أو الوجبات الجاهزة الأخرى، وبما انني رجل فقري من يومي تذكرت انني كنت أثناء أقامتي في المدينة معتادا على تناول وجبة العشاء في الطابق العلوي المطل على البحر في مطعم شعبي يقدم الحمص والفول والفلافل. قلت: بما أنّكم تريدونني أن استعيد الذكريات، اذهبوا واسألوا عن المطعم هذا وهو قرب المسجد الكبير وأتونا برزق من عنده وتلطّفوا. ذهب القوم فما وجدوا المطعم ولا صاحبه، فقد نصبت مكانه عمارة شاهقة تتناسب والتطورات التي طرأت على المدينة، لكنهم وجدو من يبيع هذه الأكلات الشعبية.
انتهينا من تناولنا العشاء، كانت الساعة تقارب الحادية عشرة، وكانت تلك الليلة هي منتصف الشهر القمري والقمر في أوج تألّقه، وأشعّته تتلألأ على صفحة الماء، موجات خفيفة تحمل نسيماً مفعماً بعبق مياه البحر الرطبة الهادئة، في منظر يسحر العيون ويأخذ الألباب. كان الجزْر في أوجه فقد انحسر الماء عدّة أمتار عن الشاطئ، وهي ظاهرة طبيعية تكون في أوجها عندما يكون القمر بدراً. سرت قليلاً في الماء ثم جلست عند نهاية الانحسار أرقب المد؛ أي عودة المياه المهاجرة إلى موطنها. موج خفيف وهادئ وكأن كلّ موجة توشوش أختها ها قد عدنا إلى أرض الوطن. ضوء القمر يميل قليلاً قليلاً يرسم لوحة لُجينيّة على صفحة المياه الهادئة. أنوار عائمة متنقلة سألت عنها فقيل لي هذا فندق سياحي عائم يجوب شواطئ الخليج. عن بعد إضاءة خافتة، قالوا هذه طابا المصرية وإلى الجنوب منها نويبع وشرم الشيخ. إذن نحن قريبين من الشقيقة مصر، لا يفصلنا عنها سوى مسافة تحدد بالعين.
نظرت غرباً أحسست بغصّة في حلقي رأيت مدينة إيلات التي يُفترض أنّها مدينة أم الرشراش الفلسطينية والتي تؤكّد توأمة الضفتين، لكن للأسف سلّمها الاستعمار البريطاني عام 1948لليهود لإقامة الميناء على أنقاضها، بعد تدمير البلدة وتهجير أهلها. جلست أرقب المد وعودة المياه المهاجرة بفعل الجزْر حتى اطمأن قلبي إلى عودتها إلى مستواها على الشاطئ عند الفجر تقريباً ساعتها دعوت الله مخلصاً أن يعود كلّ مهاجر أو مهجّر إلى موطنه. صلينا بعد ذلك الفجر وانطلقنا إلى سياراتنا عائدين إلى حيث بدأْنا، نحمل في أذهاننا صوراً لليلة صيفية هادئة على ضفاف شط الهوى الهادئ الوادع الممتع. طابت أوقاتكم.
قد تكون صورة لـ ‏‏‏شخص واحد‏، ‏‏جلوس‏، ‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏ و‏ليل‏‏
الشريف د.جهاد ابومحفوظ
٤ تعليقات
أعجبني

تعليق
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.