من أطياف الماضي.. خواطر بقلم محمد عبد الكريم الوصيف

خواطر:
من أطياف الماضي (5)
تجربة الطيران الأولى خارج العش…!

كثيرا ما كنت اتأمل اعشاش الطيور في فصل الربيع وانا طفل في القرية واتابع مراحل تفقيص البيض فيها ونمو الفراخ الي ان تصبح قادرة على الطيران ومغادرة العش.
لم أكن ادرك حينها الشبه بينها وبيني. ولم أكن أدرك حينها بأنه ستراودني الرغبة العنيفة في مغادرة القرية بمن فيها الي فضاء أوسع اعتمد فيه على نفسي واتخلص من أوامر من هو أكبر مني سنا في الأسرة والقرية ،ولا احتاج الى حنان امي..؟! كنت اتمنى ان احلق بعيدا بجناحي وابتعد ولو لحين عن جبال القرية وشعابها واوديتها وسهولها و أناسها وظلالها، ولو الي حين مثل الطيور المهاجرة التي تغادر والا تعود إلى اعشاشها الا في اخرموسم الربيع وبداية الصيف…
كنت لا أعلم أيضا بأني ساشتاق الي القرية وانا بعيد عنها ويتفطر قلبي حنينا إليها كالعطشان في حر الهجير الذي يبحث عن الماء والظل..
كنت لا اتوقع ان ذلك كله سيحدث وكلما طالت مدة الدراسة بالمدينة والبعد عن القرية ووالدتي واختي التي كتب لها أن لا تعيش ابدا هذا التحول.. فالمعهد البورقيبي جاء متأخرا بالنسبة لها وتجاوزتها فرصة الدخول إلى المدرسة ككل فتيات القرية…
بدأت اعتمد على نفسي منذ السنة الأولى في طبخ الطعام لي ولاخوي متى وجدت الوقت والقيام بشؤون السكن ورعايتهما فأنا اكبر منهما سنا واقوي بنية وأخي الأكبر اقتصرت مهمته على اصدار الأوامر وحفظ النظام والحماية الخارجية متى لزم الأمر ومتى استنجدت به ولكني لم استنجد به ابدا لاني كنت احلم بالحرية في كل شيء..
أصبحت لي علاقات مع بعض زملائي الذين قدموا للدراسة من القرى والمدن المجاورة واستقروا بمختلف القصور وادوارها السفلية.
أما قصر الحمروني الذي كنا فيه فلم يكن فيه غيرنا ولا أعلم السبب وكلما كنت أعلمه ان الأدوار العليا لغرف القصر قد انهارت اغلب مدارجها الصغيرة واصبح من الصعب التسلق إليها ولكن اخي عبد اللطيف كان يستهويه تسلقها. فكان يتسلق الي أعلى الغرف التي زالت أبوابها ويختفي داخلها. فاتشاجر معه..
اوما الي ذات مرة وبيده بندقية قديمة ولوح بها نحوي ثم طلب مني التسلق لأرى ما اخفي في ذلك الطابق من الغرف وتمكنت من الصعود الي أحدها فرايت حزما من البنادق المتروكة والتى تبدو انها قد تركت هنالك منذ عهود..
. بقى السر بيننا وذهب جزء معه رحمه الله الي ان هدمت مزنجرات بورقيبة اغلبها وهدم القصر الذي كان مقرنا لسنة او سنتين.
ولعل تلك القصور كانت مصدر خوف لبورقيبة فاطاح بها وأغلق جميع الطرق الي الشرق العربي وقطع اغلب الروابط معه…
في آخر السنة المدرسية كنا نستعد للعودة الي القرية وكنا نذهب إلى المدرسة في آخر يوم بقلوب حزينة أيضا حزنها على مغادرة القرية.
كنا نشعر بالحزن لمغادرة المدرسة لاشهر والأصدقاء والمعلمين ربما لأكثر او للأبد….
كنا ننشد نشيد الفراق فيغلبنا البكاء احيانا ونخفي الادمع ونحن ننشد نشيد الوداع بالفرنسية :
malbrouk s en va en guerre
ne sait quand reviendra
il reviendra sans guerre
ne sait quand reviendra
ذهب مبروك الي الحرب وهولا يدري متى يعود.
سيعود بدون حرب لكن لا يدري متى يعود
نعم الحياة حرب لا يعلم الانسان متى تنتهي….
تونس في 18/5/2022
محمد عبد الكريم الوصيف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.