أم خالد حقائق وذكريات بقلم علي محمود الشافعي

أم خالد
حقائق وذكريات بقلم علي محمود الشافعي
أم خالد ــ يا سادة يا كرام ــ ليست كنية وإنما هي علم , فهي بلدة هادئة وادعة اغتصبها الاحتلال عام 1948 , وأقام على أنقاضها إحدى أكبر مستوطناته في فلسطين .
تقع البلدة على تلة مرتفعة على شاطئ البحر المتوسط في الشمال الفلسطيني ، كانت تابعة لمدينة طولكرم إحدى محافظات الوطن المحتل , والتي كانت أراضيها تمتد حتى البحر , هي اليوم أطلالا بعد أن تمددت فوق أراضيها مغتصبة نتانيا, هُدمت بعد تشريد أهلها بقوة سلاح عصابات الاحتلال , وأقامت على أنقاضها تلك المغتصبة .
نشأت القرية ( أم خالد ) فوق بقعة مرتفعة نسبياً من السهل الساحلي الفلسطيني ترتفع 25م فوق سطح البحر , وتنسب إلى امرأة صالحة عاشت ودفنت فيها . تقع القرية على بعد 14 كم غربي مدينة طولكرم , تميزت القرية بتربتها الخصبة ووفرة مياهها الجوفية . وحسب المصادر الفلسطينية لما قبل النكبة , كان يتوسط القرية قبل عام النكبة مسجدٌ ومدرسة ابتدائية للبنين ومحلات سمانة و أقمشة, أما بقية حاجات سكانها فكانوا يشترونها من طولكرم , كانوا يصلون اليها على الدواب أو العربات التي تجرها الدواب , ناقلين إليها أيضا منتجاتهم الزراعية . ومعظم سكانها أتوا من المدينة أو القرى المجاورة طلبا للعمل في الزراعة التي كانت عماد اقتصاد القرية , يدل على ذلك أصولهم الممتدة في القرى المجاورة , وكذلك مدينة طولكرم وخاصة عائلة الجلاد الذين كانوا من الأعيان والملاك , وهم الآن أيضا من أعيان المدينة .
اشتهرت القرية بمحاصيلها الحقلية والبطيخ والشمام وكذلك الحمضيات , وكانوا يعنون بتربية المواشي ويصنعون الألبان والأجبان ويحيكون الاصواف , ويبيعونها في سوق المدينة , إضافة إلى الأسماك المتنوعة والقريدس والمحار من خيرات البحر . وكان الشارع العام خط حيفا ــ يافا الساحلي القديم والشهير يمر شرقها بقليل يتقاطع مع الطريق المتجه شرقا إلى طولكرم نابلس وباقي مدم الضفة الغربية المحتلة . وكذلك خط سكة الحديد الذي كان يمر شرقها .
اشتملت هذه البقعة على آثار كثيرة تعود إلى العصور التاريخية القديمة وتضم بقايا أبراج وقلاع وآبار وخزانات وصهاريج للمياه , وتشير الآثار في المنطقة كالأدوات الصواني التي وجدت في أنحاء الموقع إلى أن المنطقة لربما كانت آهلة منذ العصور الحجرية. ثم حصن (روجر )الذي بناه الصليبيون .
وفي عهد العثمانيين ازدهرت البلدة كثيرا , وكان المسؤولون العثمانيون ينزلون فيها ويستقبلون الأعيان . في سنة 1856 وصفت ماري روجرز(رسامة أمريكية توفيت سنة1920) زارت فلسطين وصفت قرية أم خالد بأنها قرية مزدهرة وأشارت إلى بساتين الشمام الكثيرة غربي القرية , وقد بلغ عدد سكانها قبيل النكبة حوالي 1130 نسمة .
في عهد الاحتلال البريطاني لفلسطين سمحت بريطانيا لعصابات الصهاينة بالهجرة لفلسطين , فأقيمت حول أم خالد مستوطنات كفار حاييم، وبيت يتسحاك، ومستوطنة نتانيا , وكانت هناك مصادمات مستمرة بين أهالي أُم خالد والمستوطنين , الأمر الذي حدا بهم إلى تدميرها وتشريد أهلها فور قيام كيانهم المحتل .
وفقًا للتقارير الإسرائيلية فانّ قرية أم خالد تمّ إخلاؤها بتاريخ 20 آذار مارس 1948, ويذكر المؤرخ الإسرائيلي بني موريس إن جملة من القرى العربية في المنطقة واجهت المصير نفسه بعد أن تزايدت الهجمات الأولى من الحرب , لذلك كان من المرغوب فيه – بحسب رأي تلك القيادة – أن يُجبَر السكان العرب على الرحيل قبل 15 أيار \ مايو, فتم تدمير المنازل وتجريف الحجارة وتشريد السكان , أما الأراضي المجاورة فقد غرست بأشجار الحمضيات.
في أوائل الثمانينات كنت في زيارة صيفية إلى أرض الوطن , فزرت أحد أصدقائي في مدينة طولكرم من عائلة الجلاد والتي تمتد جذورها في أعماق أرض أم خالد , وذلك قبل الانتفاضة وبناء جدار الفصل العنصري , فقال لي بعد الغداء والقيلولة وقبيل المغرب : ما رايك أن نذهب لنرقب الاصيل (غروب الشمس ) على شاطئ أم خالد ( نتانيا )؟ رحبت بالفكرة فجمعنا ما خف حمله من مرطبات وتسالي وعُدد السهرات وانطلقنا باتجاه سوق المدينة .
أمام ميدان جمال عبد الناصر وسط السوق موقف سيارات الأجرة التي تنطلق إلى أم خالد (نتانيا) وما هي إلا دقائق حتى انسابت بنا السيارة تخترق سهلا هو الأخصب في فلسطين , بتربته السمراء ومروجه الخضراء وسمائه الزرقاء , وروائح البرتقال والليمون تبعق بها الطريق , ربع ساعة فقط لنجد أنفسنا أمام كومة كبيرة من الحجارة والاثار , نظر إليّ زميلي بغصة فهززت راسي , قال هنا بيت جدي قلت رحمه الله , وسكت الكلام على السنتنا وكانه ترك المجال لخيالنا للعودة الى ما قبل النكبة .
اخترنا مكانا هادئا على شاطي البحر وجلسنا نرقب غروب الشمس وفي حلق كل منا غصة لا تريد أن تفارقه , زاد الطين بلة قطعان المستوطين بملابسهم الفاضحة وروائح خمورهم التي تزكم الانوف , وهم يمارسون طقوس الحب بكل فضائحه يدنسون أرضا ما عرفت إلا الطهارة , قفلت : دنس على ثوب أبيض يزول بالغسل , ويعود للثوب بياضه .
وبعد ــ يا دام عزكم ــ فيقول المثل العربي الشهير : ( لابد من صنعا وان طال الزمن ), فلا بد أن تعود فلسطين إلى أهلها , ويعود لأم خالد اسمها ومجدها وحضارتها وتعود أصوات الأذان تتردد في أرجائها مهما طال الزمن . طابت اوقاتكم .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.