مُغامَرات الكبار ..قصة بقلم علي محمود الشافعي

مُغامَرات الكبار
قصة بقلم علي محمود الشافعي
أربعة ــ يا دام سعدكم ــ من المغامرين الكبار ؛ أقصد الكبار في السن ذلك أن أصغرهم تجاوز الستين من العمر ,رابطهم الدم والأفة والمودة والرحمة وحنوّ الأخ على أخيه والأب على بنيه . أخوان وأختان جمعهم حب الطبيعة والتجوال في أرجاء الوطن الحبيب , فانطلقوا بعد سني العمل والتقاعد منه ,بعدما أدّوا ما عليهم من واجبات تجاه أبنائهم وتلاميذهم , يبحثون عن مواطن المتعة والجمال فيه , ويتّفقون على الوجهة التي يختارونها بمحض الصدفة , فكل أراضي الوطن جميلة يجدون فيها ضالتهم , غايتهم اكتشاف هذه المناطق والاستمتاع بها , وتعريف الناس بأماكنها وكيفية الوصول لها , وتشجيعهم على زيارتها . سلاحهم الاتكال على الله , ثم العزيمة القوية و( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) . عدتهم ركوبة حديثة مريحة , ومقاعد تطوي وتبسط حسب الحاجة , وبتغاز صغير ودلة قهوة , يصنعونها بأيديهم حسب الحاجة . دليلهم في رحلاتهم : العم جوجل , حادي الركب ورفيق الصحب ودليل الدرب وخير معين وقت الكرب .
في العادة ــ يا دام مجدكم ــ لا نحدد وجهتنا , فكل ربوع مملكتنا الحبيبة واحدة ,لا فرق بين الشمال والجنوب ولا بين الشرق والغرب , قال قائدنا : ما رايكم اليوم أن تكون وجهتنا محافظة مأدبا , قلت : أحسنت والله الاختيار فلي فيها ذكريات وقد أمضيت سبع سنوات من سنيّ حياتي العملية فيها , ذكريات وأصحاب وطلاب في مدرستها الثانوية الشهيرة , قال : أرى أن تكون وجهتنا نحو سديّ الوالة والموجب , اللذيْن سمعنا عن نضوب المياه فيهما مما أدى إلى نفوق أطنان من الأسماك , وبالضرورة سنمر من وسط المدينة باتجاه السدين , قلت : أتدري ؟ لقد خدمت سنة في ذيبان وكنا نمر كل يوم من فوق وادي الوالة , لكني لم أر السد ولا اعرف مكانه , قال : لا تهتم , فدليلنا لن يخذلنا , قلت : الطريق إلى هناك شديدة الانحدار والتعرج , فخذْ حذرك , قال : ما وراءنا ؟ السيارة حديثة ونحن مغامرون , ولا أظن خطورتها وانحدارها بأشد واخطر من طريق (وادي الشتا) من جهة العدسية , قلنا : إذن على بركة الله .
اتجهت المركبة إلى الجنوب تتهادى في شارع عمان التنموي أو ما يسمى عندنا شارع ( الميّة ) , وهو الخط الذي يربط محافظة الزرقاء بشرق العاصمة عمّان ثم يتفرع عند جسر المطار : يمينا إلى مأدبا وعمان , ويسارا ميمما الخط الصحراوي الذي يربط العاصمة بمحافظات الجنوب . اتجهنا إلى اليمين ثم الجنوب باتجاه مقصدنا, حيث سلكنا الشارع الرئيس الذي يخترق مدينة مأدبا لنجد أنفسنا وسط سوقها الذي يعج بالحركة , حيث تجد المتسوقين من شتى أنحاء المحافظة , كل يبحث عن ضالته فيجدها , فهناك متطلبات المنازل , ومتطلبات السائحين من التحف التراثية , ومتطلبات مربي الماشية في القرى والبادية , وكذلك منتجات الريف من خضار وفواكه , ومنتجات المواشي من ألبان وأجبان وأصواف .
على أطراف المدينة من جهة الجنوب وقفنا قليلا , فأخذت أتأمل المدرسة الثانوية بذكرياتها الحميلة والزملاء والطلبة الطيبين , الذين بقيت على تواصل معهم فترة طويلة. بعد ذلك أكملنا السير نحو الغاية المنشودة .
وتحت شجرة كبيرة ظلها ظليل وهواؤها منعش جميل قبيل بلدة (مليح ) جلسنا نتناول بعض الأشربة الساخنة مع بعض المعجنات بيتية التكوين , ثم أخذت أعيننا تسرح في جمال الريف وهدوئه بعيدا عن صخب المدينة وضوضائها , قلت سبحان الله ما أجمل هذا التنوع ؛ فللمدينة جمالها بأسواقها ومبانيها وحركتها ومواصلاتها , وللريف جماله ببساتينه ذات الخضرة والنضرة , وللبادية جمالها بطابعها وطيب وكرم أهلها , وكل راض بنمط حياته .
ركبنا السيارة وماهي إلا لحظات حتى سلكنا الطريق المنحدرة باتجاه وادي الواله , طريق متعرج أشبه بأفعى رقطاء متموجة , تباطأت المركبة بالمسير متناغمة مع تموجات الطريق وليّاتها , وضع كل منا يده على قلبه ــ عدا القائد ــ وقال : يا لطيف الألطاف نجنا مما نخاف .
قبيل الوصول إلى الوادي بحولي نصف كيلو متر لافتة على اليسار , كتب عليها سد الواله , قال : هذه أول مغامراتنا . في البداية كان الشارع معبدا لكنه ضيق لا يتسع لسيارتين إذا ما التقتا , قلت سبحان ! الله هل ضاقت علي الوزارات المتعاقبة الأرض بما رحبت فلم يوسعوه قليلا ؟ أم هو سوء الإدارة وقلة التخطيط .
على جانبي الطريق بعض المزارع التي تروى من مياه السد , أنواع الخضار والفواكه , مررنا بإحدى المزارع التي تربى فيها الأسماك وبعض الطيور والحيوانات الأليفة إضافة إلى الأشجار المثمرة . أعجبنا جحش صغير بين المزارع غاية في الجمال, بألوان مزركشة , التقطنا له بعض الصور ثم أكملنا المسير في طريقنا التي تحولت إلى طريق ترابي أكثر تضيقا على حافة واد سحيق , أكملنا الانحدار حتى وصلنا قرابة منسوب السد عندما يكون ممتلئا , هناك وجدنا لافتة كتب عليها احذر منطقة خطر, الطريق غير نافذة , قال قائدنا : سنحاول الوصول إلى أقرب نقطة من مياه السد ولو على الأقدام , وفعلا كانت منطقة شديدة الانحدار , عندها قطعت الطريق الضيقة حيث لا يمكن للسيارة الدوران , قلنا : يجعل الله لنا من كل ضيق مخرجا . نزلنا من السيارة ووقفنا على حافة السد , انتابتنا خيبة الأمل حيث كان السد فارغا بفعل قلة الأمطار هذه السنة , واستنزاف المَزارع من جهة أخرى . تأملنا السد ثم التقطنا بعض الصور وعدنا للمركبة نفكر في الطريقة التي سنعود بها إلى الأعلى , معتمدين في ذلك على الله ثم حداثة السيارة وقوة محركها الذي ما خيب أملنا فيه , رجعت السيارة إلى الأعلى رويدا رويدا لنعود أدراجنا حاملين معنا ذكريات جميلة عن هذه المغامرة , وبعض المناظر الخلابة لما حول السد . على جنبات الطريق وفي رحلة العودة التي تكللت بالنجاح فاكهة الصبر أو (التين الشوكي) حيث توقفنا وتناولنا بعض الثمار, ما أطيبها منَ الأم مباشرة إلى الفم , دون المرور بسلسلة الوسطاء حتى تصل المستهلك .
وجدنا أنفسنا أمام طريق ضيق متعرج بعد المرور من فوق جسر الواله باتجاه ذيبان على يمين الشارع الرئيس , ولافتة كتب عليها وادي اللهيدان الذي سمعنا عنه ولم نره ,قال قائدنا : هذه مغامرة جديدة لم تكن في الحسبان , قيل لنا الطريق وعر وضيق , قلنا : لا باس سنجرّب , فعلا طريق ضيق متعرج على سفح جبل وحافة واد سحيق أحيانا , وبعض المزارع الني تروى من مياه الينابيع في الوادي, كان الوادي ملتويا قليل الجريان صيفا لأن الينابيع تعتمد على المخزون المائي الذي يغذى من مياه الأمطار , بقينا سائرين في انحدار شديد حوالي عشر كيلو مترات إلى أن عبرت بنا السيارة جسرا ضيقا , في نهايته طريق ترابي ينحدر إلى حافة الوادي , تحته نبع ماء يفور من باطن الأرض , نزلنا من السيارة وخضنا عباب النبع ,غير عابئين ولا مفكرين في كيفية خروج السيارة من المأزق. لفت انتباهنا إهمال الحكومات ايضا لتلك المنطقة الخلابة , فلم تكترث للطريق ولا للينابيع , ولم تشجع السياحة في تلك المنطقة , ولم تشجع لمستثمرين على بناء شاليهات سياحية أسوة بوادي الشتا غرب العاصمة عمان , وكالعادة اعتمدنا على محرك السيارة ليخرجنا من تلك الورطة , وسط قراءة المعوذات وسورتي عم وتبارك, إلى أن نصرنا الله , ففوصلنا الطريق المعبدة ثم عدنا أدراجنا نحو مفترق وادي الوالة حيث صعدنا الحبل باتجاه مدينة ذيبان الشهيرة بمعالمها الأثرية .
عدنا إلى دليلنا العم جوجل ليرشدنا إلى أقصر الطرق المؤدية إلى سد الموجب , فأشار إلى بلدة اللاهون وقلعتها , التي تبعد حوالي الخمس كيلو مترات , وأشار أيضا ألى أشهر وأعرق وأخطر معلم فيها , إنها ــ يا دام سعدكم ــ صخرة ذيبان , هل سمعتم بها, هي صخرة على حافة سد الموجب, على حافة السد شديدة الانحدار , من تتعثر قدمه يجد نفسه مترديا في قعر السد , المنظر للأمانة خلاب لكنه ففي خطر , أصرّ أخي وزوجه على الوصول اليها ولكن بحذر , أما أنا وزوجي فلا نقوى على ذلك , وفعلا وصلا اليها وسط الأدعية والتعاويذ من قبلنا , ارتقيا الصخرة والتقطا بعض الصور من فوقها وتحتهما ذلك الهوّ السحيق في سد ما بقي في قعره سوى الطحالب . طابت أوقاتكم
الكاتب علي محمود الشافعي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.