الفزّاعة ( البعبع) مقالة بقلمي :علي الشافعي

الفزّاعة ( البعبع)
مقالة بقلمي :علي الشافعي
تصدقون ــ يا دام سعد آبائكم الأولين ــ أن لا شيء اجتمعت عليه الثقافات الشعبية في بلاد الله الواسعة ؛ من شرقها إلى غربها كاجتماعهم على مصطلح (الفزّاعة ) , مع الاختلاف قليلا في الشكل والغاية , باستثناء شعب واحد , خمّنوا من هو وسأحدثكم عنه بعد قليل . والفزاعة باختصار مجسّم من القش على شكل انسان أو حيوان مخيف , يوضع في المزارع لإخافة الطيور والحيوانات التي تهاجم المحاصيل , (الفزاعة ) عند أهل الشام , و(المخيال) في لهجة أهل الخليج و(خيال المأتا) في مصر , و الخرّاعة في العراق .
يقال: الفزّاعة في الأصل فرعونية ، وقد ذكرت في النصوص الهيروغليفية، وهناك برديات شرحت كيف تم استخدامها من أجل تهييج طيور السلوى والسمانى لاصطيادها، حيث تُنصب شباك من خيوط رقيقة , فتهرب فتعْلق في الشبكة فتكون مؤونة من اللحم المجاني للمزارعين. ثم استخدمت في الحقول لإخافة الطيور ومنعها من أكل محاصيل الحبوب وغيرها .
انتقلت الفزّاعة إلى الإغريق من الفراعنة، وكان هؤلاء قد نقلوا عن المصريين القدماء الكثير من علومهم وتقنياتهم. لكن الفزّاعة الإغريقية كانت عبارة عن خشب منحوت على شكل شخصية أسطورية تدعى (بريابوس) ، وكان قبيح الشكل يضعون في يده هراوة لمزيد من التخويف.
المزارعون اليابانيون كانوا ينصبون أعمدة من القصب أو الخيزران ويرفعون فوقها الأقمشة والقش ويضعون الأسماك والحيوانات الميتة كي تصدر روائح نتنة تُبعد الطيور. وكانوا يسمون فزّاعتهم (كاكاشي)، أي ذات الرائحة النتنة. ومع مرور الزمن راحوا يصنعون الفزّاعة على شكل إنسان، وهي عبارة عن خشبة محشوة بالقش وعلى رأسها قبعة، وبقيت تحمل الاسم القديم نفسه.
مزارعو العصور الوسطى في أوروبا لم يفطنوا للفزّاعة المصنوعة يدوياً، فما كان عليهم سوى استئجار الصبية الصغار لتخويف الطيور، وكان هؤلاء يسمون (مخوّفي الطيور). وكان هؤلاء الصبية يحملون كيساً مليئاً بالحجارة ويدورون في الحقول لرمي الطيور بها. ثم اخترعوا ما يشبه هؤلاء الصبية أي أكياس محشوّة بالقش ومرسومة عليها وجوه تثير الخوف في نفس الطائر, وبقيت تسمى بنفس الاسم .
سكان أميركا الأصليون، هم أيضاً كانت فزاعتهم من لحم ودم. فيستأجر المزارع رجلاً بالغاً يجلس على منصة عالية في الحقل، ثم يروح يصرخ ويلوّح بالقماش كلما رأى الطيور مقبلة .
تابع الأوروبيون القادمون للاستيطان في أميركا الشمالية جلبوا معهم فكرة فزّاعاتهم من أوروبا. فصنع المهاجرون الألمان فزّاعة على شكل رجل سمّوه “بوتسامون”، أو “بوغيمان”، وكان عبارة عن خشبتين متصالبتين، ورأسه مقشّة، ويلبسونه ثياباً رثّة ,أكمامها طويلة تتطاير مع الهواء لتخيف الطيور، ويلفون رقبته بمنديل طويل يلاعبه الهواء أيضاً. ثم صنعوا للبوغيمان فزّاعة أنثى هي زوجته سميت “بوتسفراو”, وجعلوا فزّاعة صغيرة تقف بينهما كأنها ابنهما. بالطبع قد تكون كل هذه الابتكارات على سبيل التسلية في سهول أميركا الواسعة والموحشة.
ويقال : كان هناك مزارع في ولاية أريزونا ، كان يمتلك أفضل مزرعة في المنطقة ومحاصيله كانت الأفضل ، وكان الناس يأتون من جميع أنحاء أمركا لشراء بضائعهم منه ، وكلما سأله الناس كيف كان قادرًا على زراعة هذه المحاصيل ذات النوعية الجيدة ، يقول : الفضل يعود إلى فزاعته . كان المزارع قد بنى جسم الفزاعة من القش بارتفاع حوالي 6 أقدام ، وجعله طويل الساقين . ولكن الشيء الأكثر رعبًا عن هذا الجسم أن رأسه نحته المزارع بنفسه من اليقطين الضخم , فكان وجهه ا ورأسه بشعًا جدًا ، وقبيحًا حتى أنه كان أحيانًا يخاف النظر إليه
أما الشعب الوحيد الذي لم يستخدم الفزاعة هم الصينيون حيث عمدوا إلى إطلاق الأطفال في الحقول لاصطياد الطيور وتخريب أعشاشها, ثم استخدموا بعد ذلك المبيدات الحشرية والمواد الكيماوية السامّة .
ظهرت الفزاعة كشخصية خيالية شريرة في القصص المصورة من نشر شركة (دي سي كومكس) هي شركة قصص مصورة وأفلام، تعد من أقدم وأنجح شركات القصص المصورة الأمريكية، وتضم العديد من الأبطال الخارقين المعروفين كسوبرمان، باتمان، المرأة المعجزة، الفانوس الأخضرالرجل المائي، رأس الغول. ظهرت الشخصية لأول مرة في العدد رقم 3) عام (1941)، ابتكر الشخصية كلاً من (بوب كين وبيل فينغر). تتمثل في شخصية الدكتور جوناثان كرين، وهو طبيب نفسي مغرور ونرجسي، ويستخدم مجموعة متنوعة من المخدرات والتكتيكات النفسية لاستغلال مخاوف خصومه. وهو أحد أعداء باتمان في برامج الأطفال .
أما البعبع ــ دام سعدكم ــ (بالإنجليزية:بوغيمان ) فهو مخلوق أسطوري مستخدم من قبل الكبار للأطفال ليخيفوهم , لتقويم سلوك ما عند الطفل , أي (ثقافة الترهيب للتصويب) . ولا يوجد للبعبع مظهر محدد، وتختلف المفاهيم حسب الأسرة والثقافة، ولكن يتم تصوير البعبع في الغالب على أنه وحش يعاقب الأطفال على سوء السلوك أو رفضهم الامتثال لطلبات الأهل , عندنا مثلا أبو رجل مسلوخة أو النداهة, ويستخدم مصطلح «بعبع» أحيانًا كتجسيد غير محدد أو كناية للخوف، وفي بعض الحالات كناية عن الشيطان.
يقابله إلكوكو : هو وحش شائع في العديد من البلدان الناطقة بالإسبانية، بوليفيا وكولومبيا وغواتيمالا وبيرو والمكسيك والسلفادور وهندوراس والدومينيكان وفنزويلا, حيث يغني الآباء أغان لأطفالهم محذرين إياهم إذا لم يناموا سيأتي إلكوكو ويأخذهم . يوجد في أمريكا اللاتينية أيضًا , ويتم تصويره على أنه وحش شرير يختبئ تحت أسرة الأطفال ليلاً ويختطف أو يأكل الطفل الذي لا يطيع والديه و ينام عندما يحين الوقت, فينشا الطفل أرنبا أو خروفا أو عصفورا, ثم يستمرئ ذلك ويعتاده .
قد تتساءلون ــ ايها السادة الكرام ــ لم هذه المقدمة الطويلة , وهل لها علاقة بموضوع المقالة؟ أقول لكم نعم وتستحق ذلك, أولا لأن الفزاعات اليوم تحولت مفاهيمها أي لإخافة بعض البشر من بني البشر, وثانيا لأروي لكم هذه الحكاية , بعد أن تصلّوا على سيدنا أبي القاسم:
نشأنا نحن جيل الستينات على أصوات أمهاتنا، عندما كنا نبكي أو نشاغب ــ بصوت خافت ــ 🙁 اسكت يامّه حتى ما يسمعك اليهودي ويأخذك ). وطبعاً كنّا نسكت ونرتعب من هذه الفزاعة الجديدة ، فنحن لم نر المحتل ولكن سمعنا أنه قتّل وهجّر وأحرق وخرّب, فكنّا نجلس نتخيل هذا الكائن : تنين له رأس ثور كبير , وعينان تقدحان شرراً , وأذنان يفترش أحداهما ويتغطى بالأخرى, يأكل كلّ شيء حتى الحجارة , ويحب لحم الصغار بعد الشَّي .
ما هي إلّا سنوات قليلة حتى وقعت نكسة 1967واحتل اليهود الضفة الغربية. ارتعبنا في البداية , وغادرنا بيوتنا حتى انتهت الحرب , خوفا على الأرانب من الذئاب. بعد ذلك عدنا للبيوت بانتظار القدر المحتوم . دخل اليهود القرية، وطلبوا من الرجال فوق سن الخامسة عشرة التجمع في ساحة القرية، يومها كنا صغاراً لم نحضر التجمع، ولكن سمعنا من آبائنا الذين عادوا (وكأنّ على رؤوسهم الطير )، أنّهم جردوا القرية من كلّ سلاح أو أداة حادة حتى الخناجر وسكاكين الجزارين.
في يوم لا ينسى من أيام عام 1968، دارت رحى معركة ضروس على أطراف القرية بين جنود الاحتلال ورجال المقاومة الباسلة، ورأيت يومها طائرة الهليوكبتر وهي تحوم على ارتفاع منخفض فوق القرية، ثم تنزل في ساحتها وينادي المنادي: ممنوع التجول وكل الرجال فوق سن الخامسة عشرة يجمعون في الساحة، ولم أحضر أيضاً ولكن يومها رأيته وجها لوجه، فقد قام الجنود بتفتيش القرية 🙁 زنقة زنقة ودار دار) بحثاً عن المقاومين. رأيته جنديا مدججا بالسلاح. قلت في نفسي: عجيب هذا بشر مثل بقية الناس، صحصح أنّه يحمل وجهاً كدراً لا يضحك (للرغيف الساخن) ولكنه بشر. قلت: ربما هو عفريت يتشكل ويتلون حسب الموقف، فتارة يكون مثل البشر وتارة مثل البقر, من يدري ؟
دارت الايام ــ يا دام سعدكم ــ وكبرنا وأصبح لابد لنا من رؤيته والتعامل معه مباشرة، لعمل الهويات وشهادات الميلاد والتصاريح ، وكان ذلك يتم في مركز أمني محاط باسلاك شائكة على ارتفاعات شاهقة، وكان أحدنا يصطف بالطابور بالساعات حتى يتكرّم ذلك العسكور بفتح البوابة، والسماح لنا بالدخول. وحتى ذلك الوقت كان الرعب ما يزال يدب في أوصالنا كلّما شاهدنا أحد المجنّدين. واعتدنا بعد ذلك الاحتكاك بهم على الجسور ذهاباً وإياباً.
ثم وقعت الانتفاضة الأولى وأخذنا نألف صور الجنود وهم يتراكضون خلف أطفال الحجارة ويركض الأطفال خلفهم. وبدأت صورة المارد تهتز شيئاً فشيئاً حتى محيت من الذاكرة، وعرفنا أنّه مثل باقي البشر لكن قلبه مُلئ حقداً، وفكره ضلل تضليلاً كبيراً. رعديد عند النزال .
ثم وقع العدوان على غزة أكثر من مرة , وشاهدنا بأم أعيننا ما تعرضت له أسطورة , صاحب الأذرع الطويلة الذي لا يقهر , ويثير الرعب في قلوب كثير من الزعماء إذا زمجر ,ورأينا فخر صناعاته تتهاوى تحت صواريخ المقاومة وسمعنا الأطفال يرددون في الشوارع
ناعمة وطرية القبة الحديدية
ثم رأينا وسمعنا مكالمة المجند حبيب أمّه وهو يناديها: ماما الحقيني أنا في الجحيم نحن لا نرى بشراً بل أشباح.
وبهد ــ أيها السادة الأفاضل ــ أقول : شكراً أشبال الحجارة , شكرا شعبنا الثائر بما قدّم ويقدم من تضحيات , شكرا غزة عرفنا منك حقيقة الأمر، عرفنا أنّ الحروب السابقة بين العرب وإسرائيل عبثية مفبركة بامتياز ، شكراً لأمهاتنا الصابرات يقدمن الشهيد تلو الشهيد في عرس وطني . النصر صبر ساعة وأراه على مرمى حجر .
كلمة أخيرة ــ يا دام عزكم ــ تدور في خلدي وتؤرقني , أود أن أعرف بم كان الصينيون يخوّفون خرافهم , عفوا أقصد أيناءهم ؟ بالميكادو الياباني , أم الدب الروسي أم البعبع الأمريكي ؟ فهمكم كفاية , طابت أوقاتكم .
علي محمود الشافعي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.