علاقة الفن والدراما..حوار الكاتبة السورية روعة محسن الدندن

علاقة الفن والدراما في المجتمع العربي المعاصر
حوار الكاتبة السورية روعة محسن الدندن

أدارت الحوار:

الإعلامية والأديبة السورية: روعة محسن الدندن، مديرة مكتب سوريا للاتحاد الدولي للصحافة والاعلام الالكتروني، ومديرة مكتب أخبار تحيا مصر في سورية، ومستشارة رئيس التحرير لجريدة أحداث الساعة.

ضيف الحوار:
دكتور السيد إبراهيم أحمد: رئيس قسم الأدب العربي باتحاد الكتاب والمثقفين العرب ـ باريس، ورئيس تحرير مجلة كنوز الأقلام الثقافية، وعضو شعبة المبدعين العرب بجامعة الدول العربية، ومحاضر مركزي بوزارة الثقافة المصرية.

من البديهي أن أعترف بأن الدراما تقوم بدور هام وحيوي في مجتمعاتنا العربية؛ فهي تساهم في بناء وتشكيل وتغيير السلوكيات والمفاهيم المختلفة، حيث أنها مرآة وانعكاس للواقع الذي نعيشه سواء بإيجابياته أو بسلبياته المتنوعة، كما أنها ترسخ لقيم ومضامين ومبادئ، وتعمل على تقديم الحلول الفعالة للعديد من المشكلات البارزة على كافة الأصعدة، ولأن الدكتور السيد إبراهيم أحمد من الذين يشاركون بالكتابة الدرامية، ومستشار إعلامي، وإخصائي تعديل سلوك، يأتي هذا الحوار للتعرض للدراما والفن وأهميتهما وعلاقتهما في المجتمع العربي المعاصر: ومن جديد أرحب بضيفي الكريم في مستهل حواري معه:

1ـ دكتور السيد إبراهيم: هل مهمة الدراما رصد الواقع أم تزويره؟

وأنا بدوري أرحب بجنابك الكريم كاتبتنا الكبيرة الأستاذة روعة الدندن وبقرائك الكرام.. وعندما نتناول الدراما، يجب أن نتعرض لمفهومها، وغاية ما يقال إنها نوع من التعبير الأدبي الذي يؤدى تمثيلا في المسرح أو السينما أو التلفزيون أو الإذاعة، وهي مأخوذة من مصطلح في اللغة الإغريقية القديمة بمعنى “العمل”، كما يكون معناها “التناقض”، ويتجلى هذا في اجتماع مزيج من الكوميديا والجدية، والواقع والخيال، والفرح والحزن في ثناياها.

وطبقا لما تفضلتِ به في تقدمتك الرائعة المحيطة بأهمية الدراما؛ فلا يجوز لها أن تساهم في تزوير الواقع لكون هذا خيانة للمجتمع وقيمه المعاصرة وهدم للأجيال وللمستقبل، بل أن من مهمامها تعرية المجتمع للكشف ليس عن سوآته وعوراته، ولكن لترشد إلى السوس الذي ينخر في مفاصله، أو الإشارة إلى القضايا والمفاهيم الهدامة، ذلك أن للدراما قيمة أساسية وجوهرية ولو تصورها البعض أنها تعمل على ترفيه المجتمع، إلا أنها ترتقي بالأفراد باعتبارها نشاط اجتماعي يعمل على تعزيز الروابط الوجدانية بينهم، وتكوين رأي عام واحد تجاه القضايا المحلية أو العالمية التي تؤثر في مصالحهم وأوضاعهم المعيشية. غير أن هناك من يوجهون الدراما نحو تزوير الواقع لخدمة السلطة أو بعض الحكام في بعض الدول، وهذا التوجه خيانة منهم لشعوبهم.

2ـ من المسؤول عن تشويه القضايا الدرامية المتلقي أم أصحاب الدراما يا دكتور؟

من المداخل النظرية التي تدرس التأثير المجتمعي للدراما، نظرية المسئولية الاجتماعية لوسائل الإعلام، باعتبار أن ممارسة العملية الإعلامية في حرية يجب أن تراعي الالتزام بالمسئولية الاجتماعية، من خلال محاولة تحقيق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع. وستلاحظين أنني أتكلم عن الإعلام وليس الدراما لأن هذه النظرية صدرت في أمريكا عام 1942م من خلال تشكيل لجنة حرية الصحافة في نفس العام.

ويتعلق سؤالك هنا بالمضمون الدرامي للعمل الذي يقدم وجهة نظر كاتبه ـ في الأساس من خلال تقييمه ـ لواقع المجتمع الذي يعيش فيه، حيث يرى البعـض أن تقديـم صورة معينة لبعض الفئات المختلفة أو التركيز على بعض القيم والمفاهيم التي يبثها الكاتب في محتواه الدرامي، هو حق أصيل لصانع الدراما، لكون هذا الحق يستند إلى حرية الإبداع الفني، غير أنه طبقا للنظرية المشار إليها، يصبح على الدراما التزام بتقديم قيم ومفاهيم مجتمعية في إطار متوازن، وموضوعي، ولا يجافي المصداقية بما يكون في مصلحة الفرد والمجتمع.

غير أن صناع الدراما من أجل الإثارة والشهرة والكسب المادي يتغاضون عن مبادئ هذه النظرية، وهذا التنازل منهم يأتي من أجل إرضاء المتلقي الذي يطلب نوعية معينة من الدراما تخاطب فيه الغرائز، وتتبنى بعض قيمه المادية الغير صالحة، ومن ثم يأتي هذا عبر اتفاق غير صريح بين طرفي العملية الفنية وهما: المبدع والمتلقي، بناء على قياس مدى إقبال الجماهير على نوعية معينة من الدراما ولو كانت غير جيدة من خلال المضمون، وجيدة من حيث الصنعة الإخراجية، فتتحول الدراما لصناعة ربحية، لا يهمها أن تكون رسالة تنمية للمجتمع وتطويره.

3ـ ومن هنا يمكننا أن نفهم أن الدراما قد تساهم في تشويه المجتمع أو تجميله؟

لقد كان للدكتور إبراهيم حمادة ـ أحد أعلام فن الدراما في عالمنا العربي رحمة الله عليه ـ كتابا بعنوان: “هل الدراما فن جميل؟”، يقول في إجابة مجملة عن سؤاله: (أن الدراما أشبه بتركيبة كيماوية لها قوانينها ومواصفاتها الخاصة، وهذه التركيبة تستمد عناصرها الأولية من بعض الفنون الأخرى كالشعر، والرقص، والموسيقى، والتصوير، والنحت، إلا أن تلك الفنون لا تعيش في داخلها كوحدات متكاملة مستقلة، وإنما تتناوب كجزئيات بعد أن تتخلى عن خصائصها الفردية البحتة في سبيل إيجاد فن جديد له معالمه الخاصة، وهو الدراما، ذلك الفن السابع).

وهو ما يعني أن الرجل أجاب عن دور الفن التجميلي دون أن يتعرض لدوره التشويهي والذي يفتح نوافذ عديدة على وقائع تطبيقية بعينها في مجتمعنا العربي المعاصر، والذي ساهم فيها بعض أكبر صانعي الدراما العربية، ومن الاستخدام المتعمد المتعدد للدراما في التشويه ما نراه في تشويه المرأة العربية؛ فغالبا ما يظهرونها سيئة الخلق، مادية، لا تعرف القيم والمبادئ، تافهة، سطحية، ضعيفة، متخاذلة، وقد تكون معقدة نفسيا، مضطهدة، معنفة، لا رأي لها، جشعة، همها المال والذهب، وغير هذا كثير مما يمكن استعراضه من خلال الدراما تحت أي مسمى: مصرية، سورية، خليجية وغيرهم، حتى خرجت الأصوات الناقدة والأكاديمية تطالب وتدعو إلى مراجعة سياسة الدولة البرامجية والدرامية في مجال التعامل مع القضايا النسائية على نحو يضمن انسجامها مع واقع المرأة المجتمعي ودورها الفعال في بيتها وحياتها العامة.

4ـ لكن هل يعني هذا يا دكتور أن ذكر حقيقة بعض النساء وما يمارسنه من سلبيات يعني تشويه درامي؟

أحسنتِ، ليس دور الدراما هنا أن تغض الطرف عن تلك الممارسات السلبية للمرأة، وإلا تكون قد مارست دورا لا يقل جُرما عن التشويه ألا وهو تزوير وتزييف الوعي المجتمعي، وساهمت في تضليل الحقائق، وبالتالي لن يتم كشف الأخطاء، ولن يكون هناك علاج لها بل ستستفحل وتنتشر، ومن هنا يجب أن تقدم الدراما النماذج السلبية والإيجابية داخل ذات العمل، وهو ما يجب أن يمتد عند تناول رجال الدين، والمتدين، والروايات التاريخية.

أو عند تناولها لقضايا الصحافة والصحفيين الذين تبرزهم في صور كثيرة سلبية ترتبط دائما بالوصولية والانتهازية والمادية، ومن المؤكد أن في كل مهنة وفئة مجتمعية الصالح والطالح، وهو ما يجب أن يتواجدا معا في الدراما، لأن التركيز على أحدهما فقط يتنافى مع أبجديات وأدبيات الفن الدرامي، والمبالغة في المثالية يأنف منها المشاهد لأن فيها مجافاة للواقع، والإغراق في الواقعية المزيفة التي تصور الشارع العربي بأخلاق ليست فيه، وأنه يضم مجموعة من البلطجية والشبيحة يسيطرون على مقدراته، والإفراط في تناول قصص الخيانة الزوجية، أو خيانة الأمانة وكأن القيم مهدرة تماما، وكأن المجتمع العربي صار “ديستوبيا”.. ليس فيه فضلاء!

5ـ عفوا دكتورنا، وأين دور النقد في متابعة هذه الأعمال؟!

يجب أن نعترف أن عمر”النقد الفني” في معظم بلدان العالم العربي ليس طويلا، إلى حدٍ ما، إذا ما قيس بعمر غيره من الآداب، كما أن النقد المنهجي الموضوعي لا يمارسه سوى القليل من النقاد، بينما يطغى على الساحة النقد الانطباعي الخاضع للمجاملات، والصداقات، والشللية، والحسابات الخاصة بعلاقة الفنان بالجريدة أو المجلة، وقد يكون النقد الفني في ذاته مجرد عمل روتيني من أعمال التحرير لملء الصفحات، بل أن هناك نقاد ينقدون العمل دون أن يرونه، أو أن أحدهم حكاه لهم، أو بنى بعضهم نقده على آراء منثورة هنا وهناك على صفحات التواصل الاجتماعي، ونتيجة لقلة عدد النقاد الذين يتميزون بالمهنية والاستقلالية والحيدة والاعتدال، ولم يدرك بعضهم أن الناقد كالقاضي تماما في حكمه الذي يجب أن يكون منصفا، ومصيبا من حيث ذكر إيجابيات العمل وسلبياته، والحكم على أدوار الممثلين من حيث جودة الأداء، ولو تم هذا لاعتدل مسار الفن الدرامي وتقدم، وعكف كتَّاب الدراما على تقديم الأجود أيضا.

مع التأكيد الدائم أن الدراما ليست كما يتصورها البعض من أنها يجب أن تأتي مطابقة للواقع وكأنها نسخة منه، فليس هذا من الفن في شيء، وإهدار لقيمة الفن والدراما معا؛ فهذا تصور سقيم ينفي رؤية الكاتب والفنان ودورهما في ضرورة إعادة بناء الواقع، وإلا لهدمنا فن القصة والرواية والمسرح وقيودهم وشروطهم، ونقلنا الواقع من صفحات الحوادث في الجرائد وحسب!

6ـ وهنا أسأل: ما دور وزارات الإعلام والرقابة على ما نشهده من تراجع أو انحراف في الدراما العربية؟

على الرغم من أن وزارات الإعلام العربية تقوم بدورها في ممارسة الرقابة على الدراما، إلا أن هناك أعمال درامية أفلتت من سلطتها وخلقت تجاوزا واختراقا لبعض العادات والتقاليد العربية، حتى أشاع البعض أن مقص الرقابة بلا نصل أي لا يعرف القطع، فغالبا ما تحذف الرقابة في بلد عربي أو توصي بحذف بعض المشاهد، ولكن بعض الفنانين ينشرون المشهد أو المشاهد المحذوفة عمدا على حسابهم في صفحات التواصل الاجتماعي بعد انتهاء عرض الحلقة تلفزيونيا، ونتيجة لعدم التنسيق بين الجهات الرقابية في البلدان العربية، أن تعرض دولة المسلسل كاملا بدون حذف في حين تعرض دولا أخرى مشاهد محذوفة، مما خلق ازدواجية رقابية لا تعرفها أكثر بلدان العالم، وهو ما يعني أن قرار المنع والحذف جزئيًا كذلك.

كما يشكو الفنانين في مصر وسوريا ـ غالبا ـ من التدخل الرقابي في البلدين، بل يتهمان الأجهزة الرقابية بأنها من أهم أسباب فشل الدراما، وعدم انتعاشها لإقرارهم القواعد الصارمة والقاسية، وكثرة رفض العديد من النصوص في الآونة الأخيرة، بدون تقديم أية مبرر مقارنة مع السنوات الماضية والتي حظيت بحرية أكبر في طرح الأفكار والموضوعات، كما أن هناك تضارب بين لجنة قراءة النصوص التي تقبل مسودة العمل، في حين ترفضه لجنة المشاهدة بعد إنجازه وصرف مبالغ مالية ضخمة على إنتاجه بذريعة رداءة المستوى الفني.

وقد سيطرت بعض الدول العربية فيما يشبه فرض الأحكام العرفية على المسلسلات والأفلام حتى تقلصت أعدادها، بل سمحت لنفسها بأن تكون رقيبا أكثر من الرقيب، وذلك حين تدخلت في العمل الدرامي ليس فقط بحذف مشهد أو مشاهد منه بل بالتعديل سواء في الأحداث أو كلمات الحوار، ولهذا أعرض بعض كبار الفنانين عن المشاركة.

غير أن الدول في واقع الأمر تقع في حيرة بين محاولة إرضاء الأصوات المطالبة بالتزام الصدق والمهنية العالية واحترام عقول المواطنين؛ لأن المسلسل يدخل كل بيت ويلقى عقولا قابلة للتصديق، ذلك أن الدراما صارت سلاحا لا يستهان به لإعادة ترميم الوعي، وإعادة ثقة المواطن في وطنه وفي مجتمعه، أو أن تسمح تلك الدول لصناع الدراما بهامش أكبر من حرية التعبير والفن فيستخدمونها دون قيود أو تحفظات؛ فيورطون المسئولين عن الفن والرقابة.

7ـ ما مدى تأثر الدراما العربية بالدراما الغربية أو الوافدة؟ وهل أثرت تلك القيم في المجتمع العربي المعاصر؟

لقد تكلمنا عن أهمية الفن والدراما ومدى أهميتهما النابعة من كونهما يؤثران في السلوكيات الخاصة بالأفراد وسلوك المجتمع في تعاملاته ككل، ومن هنا اهتمت الدولة الحديثة بالرقابة على المنتج الفني وتعزيزه بالعديد من القيم، ومع هذا فقد تأسست الدراما العربية على الاقتباس أو التمصير بالنسبة لمصر، أو بتلقي المشاهد لتلك الثقافات عبر المنصات الاجتماعية الغربية الشهيرة دونما حسيب أو رقيب، وأخيرا ما صنعته الدبلجة للمسلسلات التركية خاصة وما فرضته من آثار إيجابية أقل وآثار سلبية أكثر، خاصة وأن تركيا دولة علمانية وناقلة للثقافة الغربية بلا تحفظ في أكثر الأحيان، وتشيع تلك الثقافة في الأعمال الدرامية الاجتماعية التي يتابعها المشاهد العربي وهو وإن كان يستنكرها إلا أنها حتما ستترك أثرا فيه وخاصة عند فئة المراهقين أكثر وتقليدهم لأفعال أبطال تلك المسلسلات.

وهو ما اتخذه صناع الدراما العربية ذريعة بعد السماح بانتشار الأعمال التركية، من أن يكثرون من صور وأفكار المتعة الذهنية لجذب المشاهد العربي من خلال طرح قضايا شبه عربية واقعية ذات مضمون اجتماعي مماثل لما في المسلسلات التركية أو قريب منه، كنوع من التنافس الدرامي العربي ـ التركي، وذلك لزيادة الإقبال على الدراما الوافدة، إلى جانب الساعات الطويلة التي تبثها القنوات العربية، بل وتعيدها لما توفره ـ تلك الدراما ـ من المتعة والترفيه المتواصلين والمطالبة بتكرارها، وهو ما يعكس مدى خطورة المسلسلات التركية خاصة على القيم والثقافة والأخلاق والعادات في المجتمع العربي المعاصر، لكونها ناطقة بالعربية وألفها المشاهد العربي سواء الذكر أو الأنثى، والطفل أو الشاب.

ـ لا أملك في النهاية بعد هذه الجولة المفيدة والعميقة في أرجاء فن الدراما في مجتمعنا العربي المعاصر، إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل للأديب الموسوعي دكتور السيد إبراهيم أحمد.. على أمل اللقاء بكم في حوار جديد أترككم في أمان الله وأمنه حتى نلتقي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.