صَديقي والسّيجارةُ: قصة قصيرة بقلم سعدية بلگارح

صَديقي والسّيجارةُ:

قصة قصيرة :
سعدية بلگارح

في حَيٍّ بَسيطٍ مِنْ أحْياءِ ٱلْمَدينةِ ٱلْمُتَراميَةِ الْأَطْرافِ، تَعيشُ أُسْرَتا ٱلطّفليْنِ أحْمدَ وَعَلِيٍّ في أُلْفَةٍ وٱنْسِجامٍ جَميليْنِ.. حَيْثُ يَتبادلانِ ٱلزّيارَةَ خِلالَ ٱلْأعْيادِ وَٱلْمُناسَباتِ، ويَمْتَثِلُ ٱلصّغارُ لِنَصائِحِ ٱلْكِبارِ مِنْ أُسْرَتَيْهِما بكُلِٓ حُبٍّ وَتَفَهُّمٍ لِمُضْمَراتِ هذهِ ٱلنّصائحِ ٱلطّيّبةِ، دونَ عُقَدٍ أوْ خَلْفِياتٍ سِلْبيّةٍ.. كانتِ ٱلْبناتُ جَميعُهُنَّ و الْأبناءُ جميعُهُمْ يَشعُرونَ بِٱلطُّمَأْنينَةِ وَٱلْأمانِ في ظِلِّ هذهِ ٱلرّعايةِ الْأبَوِيّةِ ٱلشّامِلةِ.. حَيْثُ ينْعَكِسُ ذلكَ عَلى سُلوكِهِمُ ٱلْعامِّ، فَيُؤَدّونَ واجِباتِهِمُ ٱلْمَدرسيّةَ بتَفوُّقٍ، ويَحْظَوْنَ بِٱحْترامِ زُملائِهمْ وتَقْديرِ أَساتِذَتِهِمُ ٱلّذينَ يُثْنونَ عَلى سُلوكِهِمُ ٱلْإيجابٍيُّ داخلَ ٱلْمؤسَّسَةِ وَخارِجَها، وَيدْعونَ إلى ٱلِاقْتِداءِ بِهِما..
كان ٱلْحِرْصُ عَلى ٱلتّفَوُّقِ في ٱلدِّراسَةِ هُوَ هَدَفُ عَليٍّ وأحْمَدَ ٱلصّديقيْنِ ٱلْحَميمَيْنِ، حَيثُ يتنافسانِ على ٱلرُّتبةِ ٱلْأولى في كُلِّ أعمالِهِما، وكانَ هذا ٱلتّمَيُّزُ يُوَلِّدُ لدَيْهِما شُعوراً بٱلْفَخْرِ، كما يُوَلِّدُ لَدَى ٱلْمُتهاوِنينَ رَغْبةً في ٱلتّغْييرِ، ولَدى آخرينَ ٱمْتِعاضًا وحَسَدًا..
أَحمدُ يَفوقُ عَليًّا سِنًّا بِبِضْعةِ أشْهُرٍ فقطْ، مِمّا كانَ يَجْعلُهُ يُردِّدُ مازِحًا: لا تَعْترضْ يا صديقي على كَلامي فأنا أفوقُكَ تجربةً في ٱلْحياةِ.. ثُمَّ يضْحكانِ معاً ضَحكاتِهِما ٱلْبَريئةَ، إلى أنْ حدَثَ يومًا أمْرٌ لَمْ يَصْمُدْ على إِثْرِهِ أحْمدُ، فَٱنْهارَ باكيًا مِنَ ٱلصّدْمةِ.
اِستيقظَ في صباحٍ كَٱلعادةِ نَشِيطا مُتَفائلا، تناوَلَ فَطورَهُ وخَرجَ إلى ٱلْبيتِ ٱلْمُجاوِرِ، يَلْتمِسُ صديقَهُ ٱلّذي ٱعْتادَ لِقاءَهُ بٱلْقُربِ مِنْ بَيتهِم، أوْ في ٱلطّريقِ إليْهِ. طَرَقَ ٱلْبابَ مُناديا وَهُوَ يَسْتغْرِبُ تَأَخُّرَ صَديقِهِ عَلى غَيْرِ عادَتِهِ..
تَوَقَّعَ أنْ يَكونَ نائما أَوْ لا قَدَّرَ اللهُ مَريضًا .. شَعرَ بِٱلْقَلقِ وَأَعادَ ٱلنّداءَ..
فَتَحَتِ ٱلْخالةُ أمُّ عَلِيّ ٱلْبابَ وَعَلى وَجْهِها عَلاماتُ ٱلاِسْتِغرابِ قائلةً:
لَقدْ غادَرَ باكرًا.. ظَنَنْتُهُ ذهَبَ إليكَ.
-لا يا خالَتي، لَمْ أَلتَقِهِ..
-رُبّما ٱسْتعْجَلَهُ أمْرٌ ما يابُنَيّ، انْتظِرْ سَأُرافقكَ لِيَطْمَئنّ بَالي.
لم يُعَقّبْ عَلِيٌّ ٱلّذي ٱصْطَبغَ وَجهُهُ بِٱلْحزنِ وَٱلْقلَقِ..
ماذا حَدثَ؟
سُؤالٌ ظَلّ يتردّدُ عليْه طولَ ٱلطّريقِ.
اَلْخالةُ أُمُّ عَلِيٍّ كانتْ تطْرحُ سُؤالاً تِلْوَ سُؤالٍ، دونَ أنْ تَسْمَعَ رَدًّا مِنْ أَحْمدَ، كانَ فَقَطْ يُحَرِّكُ رأْسَهُ بِٱلنَّفْيِ أَوْ بِٱلْإِيجابِ، فَقَدْ كانَ مَهْمومًا حائِرًا…
أَمامَ بابِ ٱلْمُؤَسّسَةِ بَعْضٌ مِنْ تَلاميذَ يَنْتظرونَ فتْحَ ٱلْبابِ ٱلْكبيرِ. بَعْدَ سماعِ ٱلْجَرسِ ٱسْتعدوا جميعا للدخولِ..
مَسحَ أحْمدُ ٱلْمَكانَ بِعينيْهِ، لا أثَرَ لعَليٍّ..
تساءلتِ ٱلْخالةُ: أينَ عَليٌّ؟ أين هُو؟ .
-خالَتي إنّهُ هناكَ..
كان يشير جهةَ زاويةٍ قربَ البابَ، حَيْث تجْتَمعُ شِرذمَةٌ منْ ذَوي ٱلشّغَبِ، بِفوْضاهُمُ ٱلّتي لا تَمُتُّ للسُّلوكِ ٱلْقَويمِ بِصِلَةٍ، كانَ عليٌّ يقَرفِصُ بجانبِ تلميذٍ آخرَ.. غير عابِئٍ برنين الجرسِ. كان التلميذُ ٱلْآخَرُ يُدَخّنُ بَقِيَّةَ سيجارةٍ.. عِنْدما رآهما عليٌّ ٱنتفَضَ مُسرعاً إليهما..
قالتِ ٱلْخالةُ ٱلَّتي لَمْ تنتبهْ لِما كانَ يَقومُ بهِ رَفيقُ ٱلسّوءِ:
مَنِ ٱلْوَلَدُ ٱلّذي معَ عَلِيٍّ، هَلْ تَعرفُهُ يابُنَيَّ؟
لَم يَرُدَّ أحْمدُ، فَقدْ رَكَضَ نحوَ عليٍّ وهوَ يَقولُ:
هَلْ أنتَ بخيرٍ؟
تجاهلَ عليٌّ سؤالَ صديقهِ، وتوجّهَ إلى أمّهِ مستفسراً:
لِمَ أتَيْتِ يا أمّي؟
ثم صَوَّبَ إلى صديقِه ٱلحميمِ نَظْرةَ عتابٍ جَرَحَتْهُ وشلَّتْ لِسانَهُ..
ردَّدَ بعْدَ مُدّةٍ مِنَ ٱلصّمتِ:
-لماذا لمْ تَنْتَظرْني؟
أجابهُ عليٌّ:
-في طريقي إلى بيتكُمْ، التَقَيْتُ زميلَنا حُسامًا هذا فرافقْتُهُ، ظَنًّا مِنّي أنك غادرْتَ دوني. هَكذا قالَ لي حسامٌ.
لم يُعلِّقْ أحمدُ على كلامِ عليٍّ، وتَركَ ٱلدّموعَ تُعبِّرُ عنْ حُزْنِهِ.
سَحبهُ مِنْ يدهِ وَلَفَّهُ بذراعِهِ وهو يبكي، اِسْتجابَ عليٌّ لصديقهِ وهوَ ينظرُ إلى أمِّهِ، ٱلّتي أخذتْ تحرّكُ رأسَها في ٱستنكارٍ لتَصَرُّفِ ٱبنِها ٱلْغريبِ.
في الفصْلِ بَدا أحمدُ مهْموماً، وبَدا عَليّ شارِدًا. لمْ يَتَفاعلا مع ٱلدروسِ مِمّا عَكَسَ مُسْحَةً منَ الفُتورِ على الفصلِ كلِّهِ، فقدْ كانا مُحرِّكَهُ ٱلنشيطَ..
لاحظَ الأستاذُ ذلك، فسألهُما عنِ ٱلسّببِ؟
ظَلّا صامِتَيْنِ. لا جَوابَ لديهِما، فَٱلْمسألةُ أكْبرُ منْ أن تُحْكى في كلماتٍ، إنّها قِصةُ روحٍ واحدةٍ لا تقبل ٱلصَّدْعَ أوِ ٱلِانْشِطارَ.
بعد الانتهاءِ منَ ٱلْحِصَصِ ٱلصّباحيةِ عادا إلى بَيتَيْهما يدا في يدٍ، تماما كَما وَشْوشَتِ ٱلْخالةُ أمُّ عَليٍّ في أذُنِ أحْمدَ، قبلَ تَوديعِهِما هذا ٱلصّباحِ..
في الغَدِ خرجَ أحمَدُ مُطمئِنا إلى بيتِ صديقِهِ لِيجدَه غائبًا مرةً أخْرى.. في الطريقِ رمَقَه من بعيد، في نفسِ الزاويةِ تَلُفُّهُ خيوطُ ٱلدُّخَانِ ٱلْقاتلةُ، رُفْقةَ زميلِ الأمسِ، حسام.. فمَن هو حسامُ؟
هو طفلٌ كبقيةِ الأطفالِ، لهُ طموحٌ أنْ يصيرَ مُواطنًا نافِعًا لنَفْسِهِ وأهلِهِ ووطنِهِ حينَ يُكبُرُ.. وأنْ يكسبَ وظيفةً تُنْسيهِ فقرَهُ وفقْرَ أسْرتِهِ. لكن تكَسّرَ ٱلْحلُمُ حينَ جرَّهُ تَيّارُ ٱلْعِصْيانِ وٱلِانْحلالِ، فٱنْساقَ إليهِ دون تفكيرٍ.. بَدأ بِٱلسّيجارةِ ٱللّعينةِ وٱنْتهى بٱلْمُخدّراتِ.. أدْمنَ عليهما، حَتى صارَ يسْرِقُ كلَّ ما تقعُ عليه يداهُ، ليَبْتاعَ دُخانا مُدَمِّراً. فَبَدَلَ أنْ يجتهدَ في ٱلدّراسةِ ٱجْتهَد في الانْحِرافِ.. وبَدَلَ أنْ يُحاولَ إصلاحَ نفسِهِ صارَ يستهدِفُ الأَسْوِياءَ سُلوكًا لِيُدَنِّسَهُمْ ويَبْتَزَّهُمْ.. فكان يرْسمُ طرُقا خَبيثةً للإيقاعِ بضَحاياهُ.. يَستغِلُّ طِيبَتَهُمْ لِيُوقِعَ بينهُم ٱلْعَداوةَ وٱلْبَغْضاءَ حتّى يتفرقوا، فيلطِّخَ سُمعتَهُم بِٱلسّوءِ.. ولا يُفيقونَ مِنْ تلكَ ٱلْغفلةِ إلا بعْدَ توَرُّطِهِم في الانْحلالِ فيَرْسُبوا في ٱلدّراسةِ وفي ٱلْحياةِ عامّةً .. وقدْ يجُرُّهمْ ذلكَ إلى ما لا تُحمَدُ عُقباهُ، حيثُ تضيعُ أمانيهِمْ وٱستقرارُهُمُ ٱلنّفْسيُّ وٱلْأُسَرِيُّ، فَيجِدوا أَنْفُسَهُم في لائحَةِ ٱلْمَنْبوذينَ ٱجْتماعِيًّا وَأَخْلاقِيًّا..
ولذلك كَرَّسَ أحمدُ ٱلٓمُهَذَّبُ ٱلْوفيُّ وَقْتَهُ كاملاً، لِفَكِّ صديقِهِ توْأمِ روحِهِ، مِنْ قَبضَةِ هذا ٱلْمُنْحرفِ، حتى لا يضيعَ مستقبلُهُ، ويؤولَ إلى ٱلشارعِ أوِ إلى ٱلسّجنِ لا قَدر الله ُوينْدمَ حينَ لا ينفعُ الندَمُ.
اِسْتعانَ أحمدُ بإخوتِهِ وأساتِذتِهِ لِٱسْتعادةِ صَديقهِ الوحيدِ. وحاولَ الاتصالَ بأسرةِ حسامٍ، رفقةَ والدةِ عليٍّ، كيْ يساعِدواْ ٱبنَهُم الذي أبْدى استعدادَه لإصلاحِ نفسهِ.. فَٱلْأملُ في ٱلتّغييرِ قائمٌ مادامتِ ٱلْعَزيمةُ موجودةً..
“لِنُغَيّرْ سُلوكَنا للْأفضَلِ” شِعارٌ ظَلَّ يُرَدِّدُهُ عَليٌّ كُلّما صادَفَ تلميذا مُشاغبا أو مُدَخّنا .. ويَزيدُ على ذلك بقولهِ:
” اَلحَياةُ جَميلةٌ فَلنَغْتَنِمْها لِصالِحِنا”
🌺

من “مركب النجاة” أضمومة قصصية للشباب.
سعدية بلگارح (قاصة وروائية من المغرب)…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.