حكاية مخيم رؤية من الداخل بقلم :علي محمود الشافعي

حكاية مخيم
رؤية من الداخل
بقلم :علي محمود الشافعي
ظهرت لفظة مخيم ــ يا دام عزكم ــ في الذاكرة الفلسطينية بعيد نكبة عام 1948 , مرتبطة بما عاناه بنو فلسطين من ظلم وجور وقهر وبطش ومرارة , وتآمر البعيد وخذلان القريب , تم تهجير عدد كبير منهم على أيدي العصابات الصهيونية , بعد تدمير القرى واستباحة المدن . استفاق العالم على حجم الكارثة وهول المأساة التي كانوا هم السبب في حصولها ,أو شاركوا من قريب أو بعيد فيها , فبدأت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين بادئ الأمر بنصب عدد من الخيام بجوار المدن الرئيسة في الضفة الغربية والتي نجت من الاحتلال , على قطعة من الأرض محدودة ؛إما حكومية, أو تبرع من فاعلي الخير للنساء والأطفال، أما الرجال فينامون حول المخيم , للحراسة من جهة ولتوفير الراحة للنساء من جهة أخرى , شيئا فشيئا أخذت الوكالة تصرف لكل عائلة خيمة, وبطاقة إعاشة مما تجود به الأمم السخية من بقايا فتاتها , كانت الخيام ترص في صفوف تسمح بعمل قنوات ماء ارتبطت أيضا في ذاكرة القاطن والزائر للمخيم, تسمح بتصريف مياه الأمطار, والاستخدامات المنزلية من غسيل وتنظيف للأواني .
أعرف على الأقل خمسة من هذه المخيمات , زرتها منذ بدايتها ورأيت وعشت معاناة أهلها , بحكم وجود بعض الأرحام والأقارب لنا فيها، أما نحن فلم نسكنها وذلك بحكم عمل الوالد , حيث كان لنا قطيع من الماشية استطاع الوالد تهريبه أثناء اللجوء ومغادرة البلدة . ففضلنا البقاء في القرى لتوفر المراعي حولها .
وطقس فلسطين ــ أيها السادة الأفاضل ــ شديد البرودة غزير الأمطار شتاءً, سقطت الخيام مع أول اختبار لها في الشتاء , ولم تصمد أمام العواصف المطرية والثلجية خاصة عام1949بشتائه القارس وثلجته التي هدمت وجرفت العديد من تلك الخيام , مما اضطر الوكالة التفكير بغرف أكثر مقاومة لمثل هذه الظروف , فأنشأت لكل أسرة غرفة من الصفيح على مساحة 100متر مربع, ويحق لكل أسرة بناء غرفة أخرى من الطين في حصته بسقف من القصيب أو الزنك , ولا يسمح بالبيوت الإسمنتية , وبقيت المجاري على حالها لكن بنيت حمامات عامة للرجال وأخرى للنساء والأطفال, وتخيل ــ يا دام سعدك ــ طوابير الرجال والنساء والأطفال كل صباح يتقاطرون اليها ، كلٌ يحمل في يده إبريقا من الماء للنظافة , أي إذلال وقهر لأناس عاشوا سادة على أرضهم آلاف السنين , ولا تظنوا أني أبالغ فيما أقول , اسألوا من عاصر تلك الحقبة , حيث مازالت تلك العذابات شهادات ماثلة أمام ناظريه.
كره الناس هذه اللفظة أشد ما يكون الكره , لأنها تذكرهم بمأساتهم كل يوم ,وكرهوا بيوت الصفيح لأن ذلك يعني أن معاناتهم ستطول وليس كما قيل لهم ( أياما من الهدنة, وتعودوا لبيوتكم ). فتولدت لديهم قناعة ــ باستشراف المستقبل ــ أن قضيتهم ستطول, فما العمل وكيف ستسير حياتهم، فعملوا في كل شيء ، عمالا في الأرض والبناء ، وعملت بعض الارامل في البيوت .
ودارت عجلة الحياة هكذا تسع عشرة سنة , أصبح المخيم سبة وقاطنوه الأشد فقرا , ينتظرون الفرج من الله والوعود من الأمم المتحدة والشعارات الطنانة من دول بني عرب , حتى استفاقوا على مأساة جديدة تضم إلى مآسيهم : حدثت حرب 1967 , هزم بنو عرب وأصبحت كل فلسطين في قبضة الاحتلال , مخيمات نزوح ولجوء جديدة إلى الدول المجاورة ,وتعقدت المسألة, فلا رادع لجيش هزم كل جيوش العرب .
مع مرور الزمن وتكاثر الناس ظهرت الحاجة إلى التوسع في العمران لكن بقيت مساحة الأرض محدودة , فسمح للناس ببناء المزيد من الغرف كل داخل المساحة التي خصصت له, ثم الأدوار فأصبحت المخيمات من أكثر بقاع الأرض ازدحاما بالسكان , تعايش الناس مع هذا الواقع المرير , بكن برزت في عيونهم روح التحدي والمقاومة ,انبثقت من المخيمات لتعم كافة مدن وقرى الوطن المحتل , فالذي لم تقدر عليه الجيوش النظامية قدرت عليه تلك الروح بين شباب وشيوخ ونساء وأطفال ، فقضت مضاجع الاحتلال وأنهكت قوته وهزم جبروته , وازداد الأمل لدى الشعب الفلسطيني بقرب زال دولة الظلام , وهجر المخيمات وأماكن الشتات , والعودة إلى ديارهم الغالية .
وبعد -أيها السادة الأفاضل – فالمقاومة مستمرة وما النصر إلا صبر ساعة, وإن غدا لناظره قريب . أقول:
خدعوكَ فقالوا : لا يُقْهَرْ ويثير الرعب إذا زمجر
عسكور فــــوق مُدَرَّعة بنياشين النصر تبختـــرْ
إن حــــــــرك يومـــا آلته خشيته طوابير العسكر
دانَ الفرعونُ لِسَطْوتِـهِ واهتزَّ له عرشُ القيصر
ديكٌ من فوق دجاجـات سلَّمْنَ الرايـــة فاستنسر
نفش الرّيشات لأبْعــدِهم ومضى للأقـْـــــرب فتبعثر
في غزة كانت صدمتـه فجثا واسْترْحـَـم واسْتعبَر
واليوم تهـــاوت هيبتـُه من طفــــــلٍ لوَّحَ بالدفتر
طابت أوقاتكم .
علي محمود الشافعي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.