المرياع قصة من الذكريات بقلم علي الشافعي

المرياع
قصة من الذكريات
بقلم علي الشافعي
قبل يومين ــ يا دام سعدكم ــ كنا في جلسة عائلية ممتعة , سهرة تشرينية دافئة ,مع نفنفات من المطر في الخارج ,تهبّ نسمات رطبة بين الفينة ولأخرى , تقربنا من بعضنا لنزداد دفئا , بيننا أكواب الشاي مع بعض التسالي والمسهرات , نتجاذب أطراف الحديث من كل حدب وصوب , مع بعض ذكريات الماضي , في يد حفيدتي الصغيرة لعبة تصدر أصواتا أشبه ما تكون بالجرس, حركت الطفلة اللعبة فقالت أم الأولاد : الله ! ولله لقد ذكرتْني بجرس المرياع . تنبه الأولاد : المرياع ! ماذا يعني هذا المصطلح ؟ قلت : أما مرّ معكم يوما وما حدثتكم عنه؟ قالوا : ما سمعنا به إلا للتوّ, ما هو؟ وماذا يعني؟ وهل هو لعبة ؟ وهل نستخدمه قي حياتنا اليومية ؟ قلت : أما أنتم فلا , وأما غيركم فنعم , بدت الحيرة والفضول في عيونهم , فأحببت أن أشوقهم أكثر فقلت : ولربما أبوكم في طفولته شاهده وتعامل معه وأحبّه , قال الأولاد باستغراب : أنت يا أبي ؟ قلت : نعم فقد كان يصنع بأعيننا ويرعى ويدرب بأيدينا في بيت جدكم رحمه الله. تعرفون ــ يا أحبابي ــ وقد ذكرت لكم أكثر من مرة أن جدكم كان مزارعا ويربي الماشية . قال أكبرهم : نعرف لكن ما علاقة ذلك بهذا المصطلح , قلت : يا بني لا تكن عَجِلا , انتظر وسأوضح الأمر , لكن بعد أن تسمعونا الصلاة على خاتم المرسلين:
المرياع ــ يا أبناء ــ هو زعيم قطيع الماشية وقائده المطاع والنافذة أوامره على رقاب أفراده , أو شيخ القطيع كما يسمي عند كثير من القبائل العربية , الذي يعتمد عليه الراعي في توجيه غنمه , والمرياع مهاب ومحبوب من كافة أفراد القطيع ودائما ما يسيرون خلفه دون مخالفة . إذن فالمرياع خروف ذكر كبير الحجم , يختار بعناية فائقة منذ ولادته , فيربى تربية خاصة, ويدرب على زعامة القطيع , وطاعة أوامر الراعي أو حتى حمار الراعي .
عادة ما يُتخيّر خروف وافي الخلقة , سمح الوجه وسيمه بهي الطلعة طويل الصوف , أقرن أدعج أثلج …إلخ , وليس في سيرة المرياع المعروفة ما يشير إلى امتلاكه قدرات أكبر من أي خروف آخر إلا النواحي الخَلْقية , فيفصله عن أمه ساعة ولادته , فلا يرضع منها أبدا ولا يعرفها , وإنما يسقيه الراعي من قنينة في يده حتى يرتوي , ويحمله معه إما تحت إبطه أو في خرج الحمار , ثم يتدرب على الأكل والشرب من الخرج حتى يفطم , والخروف بطبعه اليف يلحق من تربى على يديه, ويعتبره أمه وكثير ممن يربون الخراف في البيت للأضحية يلحظون هذه الميزة, فيلعب بينهم كأحد أفراد العائلة , ولا شك أنكم تذكرون الخراف التي كنا نربّيها للأضحية كل عام , ونأخذها أحيانا في رحلاتنا في البر
عندما يكبر المرياع ويتم إخصاؤه كي لا ينشغل عن وظيفته الأساسية وهي (قيادة القطيع)،وتقص مقدمة قرونه حتى لا يؤذي غيره , ولا يتناطح مع الكباش , ولا يجز صوفه ليبقى كبيرا مهاب الجانب, وعادة ما يزيّن ثم يوضع في رقبته جرس ليعتاد الخراف على سماع صوت الخروف أو الجرس , فينهض القطيع ويسير خلفة , ولا يقوم القطيع إلا إذا قام , ولا يقيل إلا إذا قال . ويتميز المرياع بقابليته للتعلم , وانصياعه لسلطة (الحمار أو الراعي) , الأمر الذي يمكنه من قيادة قطيعه بسهولة ويسر إلى أماكن ورود الماء والكلأ , والعودة منها وإن لم يشبع القطيع أو يرتوِ , فهو يسير خلف المرياع أينما سار , وعادة ما يعلق جرس أو أكثر في رقبته فيُحدِث صوتا أثناء الحركة والمشي فيسمعه باقي أفراد القطيع فيستمر في تبعيته والمشي خلفه أينما توجه وإن كان ذاهبا إلى المسلخ , فإذا سار المرياع سار القطيع وراءه معتقداً أنّه يسير خلف زعيمه البطل، لكن المرياع ذا الهيبة المغشوشة لا يسير إلاّ إذا سار الراعي أو الحمار ولا يتجاوزه أبداً.
شاهدت مرة فلما وثائقيا عن مرياع مرة سار بالقطيع في منطقة وعرة حتى وصل إلى حافة واد سحيق. فانزلقت قدماه فسقط أسفل الوادي فما كان من باقي القطيع إلا أن لحقه طائعا مختارا، الواحد تلو الآخر لا يلوي على شيء , بحكم الاقتداء الأعمى الذي اعتاد عليه.
يُدرب المرياع عند بعض القبائل منذ صغره على اتباع الراعي باستخدام الضرب والركل والإساءة أحيانا , من أجل الاطمئنان على تأديته المهمة إما بالترغيب أو الترهيب . كما يُدرّب على عدم الخوف من الكلب الذي يحرس القطيع , فتنشأ بينهما علاقة صداقة تشاركية , فهما معا دائما في خدمة سيدهما (راعي القطيع).
بعض القبائل ــ يا دام سعدكم ــ لا تأكل لحم المرياع , وإنما ترمي به جيفةً تتناهشها السباع والطيور , فإذا سألتهم قالوا: هو غاش لبني جلدته وخائن فلا يستحق أن يكرّم فيقدم على موائد الكرام , لأنه يسيرها تبعا لإرادة مولاه, وأحيانا يقودها إلى المسلخ فتذبح ويعود هو سالما ليقود مجموعة أخرى إلى حتفها وهكذا . يذكرني هذا بجملة نابليون الشهيرة عندما احتل النمسا بمساعدة أحد ضباطها , الذي حضر للقصر لمصافحة نابليون وقبض ثمن الخيانة قال : أعطوه ما شاء وليخرج من مملكتي, فلا يشرفني أن أصافح خائنا لوطنه , وكذلك المغول عندما دخلوا بغداد , كان أولُ ضحاياهم الخليفةَ ووزيرَه اللذين سلماهم مفتاح المدينة .
وبعد ــ أيها السادة الكرام ــ في حياتنا اليومية كم من المراييع نقابل، وكم من المراييع خانت وفتكت بأبناء جلدتها , وكم من أناس يتبعونهم كالقطيع فيقودوهم إلى حتفهم دونما اعتراض , كم منا من يتبع هؤلاء ويطبل لهم ويسير خلفهم ويزيّن للباقين أفعالهم .
هناك بين البشر من هم على شاكلة الغنم لا يحلو لهم السير إلا خلف مرياع ودون أدنى تفكير, بدءاً من البيت أو المدرسة , وقس على ذلك الكثير من المؤسسات في بلاد بني عرب , حيث صُمم نظام الهيئات لغرس روح الطاعة والانصياع لأوامر المسؤول دون نقاش , بدلا من الشعور بالمسؤولية. فالبنت التي تنصاع لأمها دون نقاش , وعليها أن تنفذ أوامرها وتعليماتها ونصائحها عن أسلوب تربيتها أو معاملتها مع زوجها وأهله ,وكذلك حبيب أمه وتعامله مع زوجته وأهلها , وقد تكون هذه النصائح خاطئة تخرب البيوت .
في المدرسة مصنع العقول الأولى : صدقوني كثير من التعليمات خاطئة , تضر بفلسفة التعليم وأهدافه وغاياته التي قرأناها وحفظناها أثناء فترة تدريب وإعداد المعلمين ,وينسحب أيضا على رؤساء العمل وخطباء المجالس والبرلمانات والمنتديات .
أقول : هذه نماذج فقط لا أريد أن أتعمق أكثر , لا تغرّنّكم المظاهر والأجراس الطنانة والرنانة والهيبه المغشوشة والكلام المنمق .
أخيرا ــ أيها السادة الكرام ــ لي سؤال لم أهتد إلى الإجابة فهل من مساعدة ؟ السؤال : إذا مات الحمار أو الراعي فهل يبقى المرياع مرياعا . فهمكم كفاية , طابت أوقاتكم .
علي محمود الشافعي .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.